أروي لك بعض تفاصيل من حياة شاب صعيدي من أبناء الطبقة الكادحة. بدأ حياته في احدي قري الصعيد.. واستمرت معاناته حتي اليوم.. لتقدم هذه المعاناة ما يشبه المعزوفة الحزينة.. فهو لم يعرف يوما واحدا سعيدا في حياته.. لعلك تجدين لحياته المحبطة حلا.
وأنا ياسيدتي واحد من أبناء بناة السد العالي.. لم يكن أبي مهندسا مرموقا.. أو موظفا خطيرا.. أو اداريا كبيرا في المشروع.. كان مجرد عامل أو 'ريس عمال'.. كان واحدا من ألوف البنائين البسطاء من أحفاد البنائين العظام الذين بهروا العالم منذ ألوف السنين بعظمة ما تركوه من هندسة ومعمار وفن. كان أبي واحدا من العمال الذين بادروا عندما بدأ مشروع السد العالي بترك قراهم ونجوعهم في جنوب الصعيد.. وهجر نسائهم وأطفالهم وأمهاتهم وأهليهم لكي يحطوا الرحال في موقع بناء السد بأسوان.. ولكي يعيشوا سنوات حياة أقرب إلي القسوة والحرمان.
فقد كانوا يقتسمون اللقمة أو الأجر البسيط الذي يحصلون عليه بينهم وبين أسرهم التي كانت تعيش بعيدا في انتظار ما يرسلونه إليهم. كان والدي واحدا من الذين حفروا بأيديهم
المعروقة الصخر.. وتسلقوا بأرجلهم النحيلة الجبال علي ارتفاعات أعلي من ارتفاع الهرم.. وعملوا في قيظ أسوان في الصيف وبردها في الشتاء وسط تفجيرات الديناميت
التي حولت النهر وأخضعت طبيعة المنطقة القاسية للانسان. كان أبي واحدا من هؤلاء الجنود المجهولين الذين يجب أن تفخر بهم مصر مثلما تفخر بجنود حرب أكتوبر.. فقد
كان مشروع السد العالي أشبه بالحرب.. وكان تنفيذه انتصارا ما بعده انتصار ولعل الأجيال الجديدة لا تعرف عنه الكثير. واعذريني اذا كنت أطلت الحديث عن والدي الذي
اعتبره من الأبطال لأنني أشعر بأنه لم يلق من الوطن التقدير الكافي عندما أصيب أثناء العمل.. فقد سقط أبي وهو يعمل بالسد من ارتفاع كبير.. وأصيب في ظهره اصابة
بالغة.. وان كان الله سبحانه وتعالي قد لطف به فلم يتحطم عموده الفقري. وكان لابد لأبي بعد الاصابة أن يترك العمل وأن يعود مهزوما إلي قريته وزوجته وأولاده وكنا ولدين أنا أصغرهم وثلاث بنات.
ومازال محفورا في ذاكرتي من طفولتي مشهد أمي وهي تعالج والدي بالعلاجات التقليدية البدائية.. فهو لم يدخل مستشفي علي حساب هيئة السد العالي.. ولم يكن هناك تأمين
صحي للعمال.. أو تعويضات لمن يصاب ومازلت أذكر وجه أبي وهو يتقلص من الألم ويجز علي أسنانه من شدة الوجع دون أن يرتفع له صوت لأن الرجل الصعيدي لا يجوز
أن يقول آه.. وأمي تقوم بعمل الحجامة علي ظهره أي تعالجه بالكي بالنار.. أما الجروح فكانت تداويها بأن تكتمها بالبن وبالبصل.. وكان من الطبيعي وقد كانت هذه
هي كل العلاجات التي كان بامكان أبي الحصول عليها أن تطول مدة شفائه من اصابته.. وتدهورت أحوالنا المادية في هذه الفترة.. وقد زادت هذه الأزمة من همتي..
فعندما دخلت المدرسة الابتدائية حسب رغبة والدي الذي كان رغم أميته يريد لنا مستقبلا مختلفا خاصة بعد ان اختلط وشاهد المتعلمين المشاركين في بناء السد أقول انني
أصررت رغم طفولتي علي أن أعوض والدي عن آلامه وخيبة أمله وذلك بأن أكون تلميذا متفوقا في مدرستي.. وبالفعل كنت من الأوائل.. وشاركت في النشاط المدرسي
وأصبحت رئيس الجمعية الثقافية.. وعندما حصلت علي الابتدائية كان ترتيبي هو الثاني علي المدرسة.. وفي الاعدادية كنت الرابع. وبجانب الدراسة قررت مساعدة والدي..
فكنت أقوم ببيع الترمس والجرجير والطرشي والجوافة للتلاميذ وللأهالي. وعندما وصلت إلي المدرسة الثانوية كنت أقوم أثناء فترة الدراسة بالبيع.. أما في العطلة
الصيفية فكنت أعمل رئيس أنفار لمقاومة دودة القطن. وعندما تحسنت حالة والدي الصحية نزل للعمل فلاحا باليومية عند ملاك الأراضي.. ثم أكرمه الله ووجد عملا
بشركة حسن علام للمقاولات كعامل خلاطة مركزية. وعلي امتداد السنين كنت أتحمل مسئولية الانفاق مع والدي.. فالمسئولية كانت كبيرة.. كانت هناك أمي وثلاث اخوات
بنات.. ثم ان أخي الأكبر لم يكن يشارك بشيء حتي بعد أن عين مدرسا.. لأن والدي أصر علي أن يزوجه بعد أن أنهي الخدمة العسكرية مباشرة. ولعل السبب في ذلك يرجع
إلي أن والدي كان يعاني من عقدة انه وحيد في حين ان عائلته أي أعمامه وأولاد عمومته كان عددهم كبيرا.. وكانوا يقاطعون والدي ولا يعتبرونه منهم لأنهم كانوافي حالة عداء
مع عئلة أمي.. فقد كان بين العائلتين ثأر راح ضحيته سبعة أشخاص.. وقد وقف والدي علي الحياد.. لأنه كان يتقي الله ولا يرضي أن يسفك دما أو يسرق بهيمة أو يقتلع
عودا أخضر من أرض الآخرين.. مما جعل عائلته تتهمه بأنه يقف في صف عائلة أمي ضدهم.. وكان من بين ما فعلوه بنا من أعمال مسيئة أنهم أخرجونا من بيتنا حتي لا
نسكن في جوارهم.. وما أكثر ما كانوا يضربوننا ونحن أطفال ويسيئون معاملتنا.. ولم يكن في مقدور والدي أن يقف في وجههم لأنهم كانوا عزوة.. وكان لهم علاقات ببعض
أصحاب النفوذ ثم دخلت الجامعة.. واخترت أن أدرس ادارة الأعمال التي أعشقها في كلية التجارة.. وكنت أنجح دائما بتقديرات.. وفي نفس الوقت وطوال سنوات الجامعة
وفي العطلات الصيفية كنت أذهب إلي مدينة السادات التي كانت وقتها عبارة عن صحراء لأعمل في مصانع الطوب وفي مشتل المدينة وفي المطاعم والكافتيريات.
وكان المفروض أن أتخرج في البكالوريوس بتقدير لولا ان حدث لي حادث قبل الامتحان بأيام.. أصبت في رأسي ونقلت إلي المستشفي حيث تمت خياطة جرح في
رأسي بسبع غرز عميقة. فكان ان ذهبت إلي الامتحان وأنا في حالة صحية سيئة.. وفقدت التقدير ونجحت بمقبول. وكانت ظروف أسرتي تحتم عليٌ العمل بعد التخرج
مباشرة.. ولم أجد فرصة عمل سريعة إلا في ليبيا.. فسافرت.. وعملت هناك أربعة أعوام.. لكن الغربة لم تحقق لي ما كنت أطمح فيه.. فلم أعمل بالبكالوريوس وانما عملت
في مهنة مبلط سيراميك ورخام.. وعدت إلي مصر وقد فقدت من عمري أربع سنوات غالية وليس معي سوي سبعة آلاف جنيه وبعض الأغراض العينية.. صرفت منها
قرابة الألف جنيه بسبب تعنت مسئول الجمرك في السلوم.. فقد كان سفري إلي ليبيا بالبطاقة الشخصية وعند عودتي كانت البطاقة بالية.. وكان معي شهادة البكالوريوس
موثقة من وزارة الخارجية المصرية.. لكن الجوازات والجمارك لم تعترف بها مما اضطررني لأن أدفع مبلغا كبيرا لسائق السيارة الأجرة حتي يقوم بتوصيل أغراضي
إلي بلدي بالصعيد.. أما أنا فقد تأخرت في العودة بسبب ما تعرضت له من ترحيلات.. وهكذا عدت إلي وطني لأجد أن أبي قد خرج علي المعاش من شركة حسن علام وأن
معاشه في حدود السبعين جنيها. ووجدت ان أخي مشغول بزوجته وأولاده الذين يتكاثرون بمعدل طفل جديد كل ثلاث سنوات.. فقمت ببناء شقة في الصعيد بالمبلغ الذي
ادخرته في الغربة ودخلت الجيش لأداء الخدمة العسكرية وخرجت بدرجة عريف وأخلاق قدوة حسنة تقديرا من قادتي لالتزامي طوال مدة خدمتي. ولم أقطع صلتي بمهنة
مبلط السيراميك.. فظللت أعمل بها في اجازات الجيش.
وبعد أن أنهيت مدة خدمتي استأجرت حجرة بالقاهرة وصرت أعمل ليل نهار لألبي
متطلبات والدي الذي أصبح يعول أسرتين.. أسرته وأسرة أخي الذي كان يعتمد كثيرا علي والدي. لكن والدي ما لبث أن مرض بالقلب مما كان يسب له تورما في أجزاء من
جسمه إن تأخر عليه العلاج.. أيضا فإن والدتي أصيبت بأمراض في عينيها وأصبحت في حاجة إلي أكثر من عملية.. ولم تكن السبعون جنيها التي هي كل دخل والدي المسن
تكفي كل هذه المتطلبات.. فكنت أعمل بلا توقف لكي أعالج أبي ولكي تجري أمي عملياتها الجراحية. ثم حل أجل أبي.. ورحل عن الدنيا.. وعندها تنكر أخي لكل ما قدمته
من أجله وأولاده الذين رباهم جدهم من مالي ومن صحتي وعافيتي ورفض أن يساهم في الانفاق علي الأسرة مما جعل الحمل يثقل عليٌ.. ومما جعلني أقوم برهن ثلاثة
قراريط وثلث كنت اشتريتها من أجل المستقبل في مقابل خمسة آلاف جنيه.. ثم استدنت ما يقرب من ألف ومائتي جنيه بسبب ركود في سوق العمل وبسبب أن ظهري أصبح
يؤلمني من كثرة الانحناء في مهنة السيراميك كما تشبع جلدي من الأسمنت فصار هينا أمام غزو 'الاكزيما'. انني أشعر ياسيدتي هذه الأيام وبعد سنوات من الجهاد من أجل
لقمة العيش منذ كنت طفلا بأن صحتي تخونني.. وبأن نفسيتي مدمرة لأنني وبعد كل هذا الطريق الشاق الذي قطعته لم أحصد سوي الديون وصدقيني ياسيدتي انني أصبحت
محاصرا بقلة العمل.. وبآلام ظهري من كثرة الانحناء أثناء العمل.. و'بالاكزيما' التي تسربت إلي جلدي مع الأسمنت.
وفي النهاية.. ألا يحق لي ياسيدتي أن أحلم بعد أن لهثت طويلا منذ الطفولة من أجل لقمة العيش بأن يمنحني الوطن فرصة لكي أعمل ببكالوريوس التجارة بعد أن أصبحت غير
قادر صحيا أو نفسيا علي مواصلة العمل في الصنعة التي عملت بها سنوات طويلة حتي ارهقت.. ألا يحق لي أن أمنح وظيفة في قطاع البترول الذي أتابع اكتشافاته وأحترم
وزيره الدكتور سامح فهمي وأعجب به كثيرا.. حتي ولو كانت هذه الوظيفة في آخر الدنيا.. أو في قلب الصحراء
منقول
وبعد فهذه المشكله لا تخص هذا الشاب فقط بل جميع شباب مصر والبركه فى الحاكم على العموم بتمنى من الله الفرج ويصلح الحال
الإثنين ديسمبر 31, 2007 9:58 pm
